عندما ساقـنـا القدر للتدريس في منطقة نائية ، عشنا كمجموعة كبيرة من المعلمات في عمارة واحدة ، و في شقق قريبة . كانت العمارة تزيد وحشة الغربة في نفوسنا الداكنة ، قد يعود ذلك الى سوء تصميمها الهندسي ، أو لآن الدهر أكل عليها و شرب ، أو لكثرة الحشرات التي تخترق غرفتنـا من دون استئذان .
و لعل الشي ء الوحيد الذي كان يخفف عنــا هموم الغربة هو تلك الآمسيات الجميلـة التي كنـا نقضيها مع بعضنـا البعض ، فقد كانت أحاديثنا متشبعة ، و في كل الآتجاهات ، تعرفنا من خلآلها على اللهجات المتعددة و التقاليد المختلفة ، فقد كنا من مناطق متفرقة من وطننـا .
و ذات ليلـة شديدة البردوة ، كسرت زميلتنا روتين أحاديثنـا المعتادة حينمـا قالت و هي تتأمل تساقط قطرات المطر على النافذة :
>> لقد اشتقت الى جارتنـا >> ، فقلن لها ببراءة : >> و لم لآ تتصلين بها ؟ >> ، ابتسمت زميلتنا ابتسامة ساخرة ، و قالت : >> جارتـي هي مقبرة >>
رنت كلمة مقبرة رنة عنيفة في نفوسنـا ، و كأنها صفارة انذار ، حدقنا في وجهها بذهول ، و كنـا على وشك الآغماء ، ثم تابعت قائلة : جارتي هي مقبرة .. منذ صغري و أنا أنظر اليها من نافذتي ، فقد كان منزلنـا قريبا منها ، و لطالمـا وقفت أتأمل تلك القبور و أمعن التفكير في أحوال أصحابها ، و كم يحلو لي أن أفتح النافذة في منتصف الليل ، فالظلآم يغلف المكان ، و الهدوء المخيف يخيم على القبور .
و ما ان سمعنا كلمة منتصف الليل حتى التمعت عيوننا بالدهشة ، و اقشعرت أبداننـا و ارتعدت فرائضنـا ، و زميلتنا تسترسل في التعبير عن عواطفها الجياشة تجاه المقبرة ، غير مبالية بالتغيرات النفسية التي نعاني منها ، فتساءلت قائلة : >> كم هي مربكة رؤية القبر الجديد ، فكلما سمعت عن وفاة أحد ، ركضت الى غرفتي و فتحت نافذتي ، لآرى تلك الجموع من الناس تحتشد عند المغسل ، فما أن يخرج الميت منه محمولآ على النعش حتى ينهض الناس للصلآة عليه ، و كأني أسمعهم يهتفون في أعماقهم بصمت قائلين : >> أنت اليوم و نحن غدا >> .
وتتقاذفني الآفكار عندما يحملون الجنازة حتى يصلوا به الى قبره المفتوح فيلقن الشهادة ، ثم يوضع ذلك الجسد في الحفرة ، و يهيلون عليه التراب ، و عندما تتفرق عنه الناس أتساءل : كيف حالـه في تلك الحفرة الضيقة ؟
و هل هي روضة من رياض الجنة أم حفرة من حفر النار ؟
و ما أن يأتي الليل حتى أسرح في ذلك الضيف الجديد الذي حل للتو في بيت جارتنا ، و دائما أتخيل نداء وهمياً يأتي من المقبرة يقول لي : أنت أيضا ستأتين الى زيارتي في يوم من الآيام ،هل تعلمن أن القبر ينادي كل يوم قائلآ : >> يا ابن أدم أنا بيت الوحشة أنا بيت الدود >> ، صمتت زميلتنـا لبرهة .
فساد الغرفة صمت رهيب و خيل لنا أننا نلفظ أنفاسنا الآخيرة ، فالتفكير في الموت و نحن في الغربة أفزعنـا ، و أحزننـا .
ثم أردفت قائلة : تلك المقبرة أسهمت في تكوين ضميري و ردعي عن الذنوب ، فاقتربت من الله بالعبادات ، رؤية القبور جعلتني أفكر في الآستعداد الى ذلك البيت الجديد ، بل و أحرص على أن أجعلـه مضيئـا ً بأعمالـي الصالحة ، مفروشـاً بورد التقوى و رضا الله ، أنـا أعتبر نفسي محظوظة بهذه الجارة ، صمتت الزميلة ، لكنها أيقظتنـا من الغفلة التي كنـا فيهـها .